ليس لَهُ أن يغيبَ، وغُربتُهُ حَاضِرَةْ،
ليس لَهُ أن يغيبَ، وغُربتُهُ حَاضِرَةْ،
أُمُّهُ مَنَحَتهُ الكثيرَ من الحُبِّ والحيواتِ،
أبُوهُ أطلَّ منَ البرزخِ الفوضويِّ، على إرثِهِ،
طِفلُهُ اختَصَرَ الحِكمَةَ الأزليَّةَ واستَبَقَ الآخِرَةْ..
وهو بين الملاكِ -الذي فيه- والآدَمِيْ
يتأمَّلُ في ملكوتِ الإلَهِ، ويكتبُ للعَالَمِ:
عندي فائضٌ من الوحشة والقلق والارتباك،
وفائضٌ من الأرق والصداع والجوع،
وفائضٌ من العذابات عبر التاريخ،
وفائضٌ من هذه الاحتضارات.
لا يُجبرُنِي على العيش
سوى دعوات أمَّي
وقُدرتي الهائلة
على النِّسيان.
أينما وَجَدتَّنِي، امنحني جرحًا عميقًا، يليق بأعماقي،
وأسئلةً عميقة تشبِهُ البروق المسافرة في الظلمات،
وامنحني فسحة من الوقت؛ لأتأمل في الفناءات،
وأنبشَ المقابر المنسِيَّة في مستنقعات الأوطان..
لا تبخل عليَّ بخرائط الموتى ما دامت تخصُّني،
أنا خلاصة الحسرة والقهر والدموع المشتعلة،
خلاصة الحنين والحرمان والتشرد والضياع،
خلاصة الهزائم البشرية وخلاصة انكساراتها،
خلاصة الخسارات الفادحة للكون والكائنات..
أقول لك: أينما وَجَدتَّنِي، امنحني أسئلة عميقة،
وجُرحًا عميقًا يليقُ بأعماقيَ التي لم أبلغ قعرَها..
أضعَ رأسي على مخدة من العشب فتحترق،
أضعُ رأسي على مخدة من الحجر فتنصهر،
أضعَ رأسي على مخدة من الثلج فتذوب،
أتركُ رأسي يطير فيسقط المطر مُشتعلاً؛
لأنَّ البراكينَ بناتُ الحُمَّى التي تسكُنُنِي..
تبدو هذه الجغرافيا كامرأةٍ لا أشتهيها،
ويبدو هذا الواقع كولدٍ لا يُنسبُ لأبيه..
كلُّ شيءٍ غير صالحٍ للحياة كما يجب..
أين أضع أول قدمٍ مبتورةٍ لكي أعود!!
أين أضعها لكي أعود إلى الله ناقصًا!!
لن أتذمِّر حين أقف أمامَهُ بقدمٍ واحدة،
فهو يعلم بالذين يبترُون أقدامَ شعوبهم
كلما رأوهم يمشون خلف جنازة مناضلٍ حُر،
أو كُلَّما رأوهم يُلمِّعُون أحذيتهم بِصُوَرِ الطُّغاة..
خرجتُ عن السِّيَاق للمرَّةِ الألف،
أنا خارج كل السياقات بالسليقة،
لا أستطيع مُجاراة أحدٍ ولو مجاملة،
لا أستطيع أن أتحدث كما يرغب الآخر،
لا أستطيع الصمت لحظة الحظر الكلاميّ..
فَمِي ليس مِلكًا لأحدٍ في هذا العالم المملوك،
ولساني ليس ملعقةً في مطابخ وموائد السَّاسة،
ورأسي هذه التي أحملها وحدي، تفوق وزن التَّبَّانة.
لي أن أبالغَ في حكمتي كما أشاء بعقلانيَّةٍ أو بجُنون،
لي أن أكتبَ بكل سلاسة ووضوح أو بغموضٍ سرمديّ،
لي أن أكتبَ بأعصابي أو بأسناني أو بحذائي ما شئت،
لقد سئمت الكتابة بدمي في واقعٍ لم تعد تُحرِّكهُ الدماء،
لا توجد صحيفة أو مجلة -هنا وهناك- إلاَّ وفيها من دمي،
حتى نشرات الأخبار لا يعنيها دائمًا غير هذا النزيف الحاد
رُفِعَت الأرواحُ وجفَّت الأفئدة في اللحظة الأخيرة للحياة
رُبَّما أنجو وحيدًا ورُبَّمَا أهلكُ من فرطِ الحنينِ إلى الحرية
أنا حُرٌّ كما ولدتني أُمِّي فلا تستعبدني أيها الشَّبَحُ البائس،
أنا حُرٌّ بأقوالي وأفعالى وحركاتي وسكناتي، إلى الأبدية.
ما يلزمُك هو أن تتركني وشأني حُرًّا في الكون الواسع،
أطير في الهواء أو أمشي على الماء أو أبتلع النيران،
أو أُعطِّل المسار التكنولوجي بلغتي أو بروحانيَّتِي،
الأهَمُّ أن ترفع عنِّي سلاحك دُونما قيدٍ أو شرط،
وإذا كان صوتي يُؤذيك فدافع عنك بصوتك،
لا بصوت الأعيِرَةِ النارِيَّةِ، ثقيلةً أو خفيفة،
لقد استنزفت دمائي وأنا أكتبُ أزمنتي،
لا حرف ولا كلمة إلاَّ بها من هذا الدَّم،
لن أكتبَ بدمي بعد الآن مهما كان،
سأكتبُ بأسناني على الصُّخُور..
أختَلِفُ مع حالات الطقس طيلة العام،
أختَلِفُ مع الجهات والبوصلة والخرائط،
أختَلِفُ مع مواعيد تحديد النوم والصَّحو،
أختَلِفُ مع أحلام اليقظة والرؤيا الصالحة،
أختَلِفُ مع لحظات الانتظار لأيّ شىءٍ كان،
أختَلِفُ مع الاحتمالات الفائضة والمتوقعة،
أختَلِفُ مع كل المعارك الحقيقية والوهمية،
أختَلِفُ مع أعيادٍ مُمِلَّةٍ تظلُّ تستنزف الروح،
أختَلِفُ مع كل مناسبات الأفراح الاعتباطية،
أختَلِفُ مع أمر الوقوف على الأطلال الزائلة،
أختَلِفُ مع العواطف المُشبَّعة بحداثة الزَّهو،
أختَلِفُ مع أناشيد الانتصارات وبُحَّة السِّيادة،
أختَلِفُ مع أغانٍ شعبيَّةٍ خارجةٍ عن الأعراف،
أختَلِفُ مع كل القوانين التي تترنم بالحرية،
أختَلِفُ مع الحرية إذ هي طريحة الفراش،
أختَلِفُ مع لبس الحرير والديباج والقطن،
أختَلِفُ مع الأرائك وأصحاب الفخامات،
أختَلِفُ مع الكهوف والمغارات الثائرة،
أختَلِفُ مع حكومات تتوارث بعضها،
أختَلِفُ مع نظريَّة: الأسبقِيَّةُ لهؤلاء،
أختَلِفُ مع هؤلاء وأولائك جميعًا،
أختَلِفُ مع الحياة الدُّنيا بما فيها،
أختَلِفُ مع الخلقِ وأختَلِفُ عنهُم،
هَكَذَا لا أتَّفِقُ -أبدًا- إلاَّ مع الخَالِق.