منبر حر لكل اليمنيين

تغريد خارج السرب..

28

(شهارة).. خمسة أحرف مكتظة بدهشة غير منطوقة وغير مكتوبة.
40 عاماً عشتها في صنعاء، لكنني ما زلت مسكوناً برائحة النورة، وأصوات الأبواب، وصفير النوافذ حين تعبر منها الريح.
أربعون عاماً.. وكلما وضعت رأسي على المخدة يحملني حنيني إلى بيتنا في شهارة، حيث سُرَّتي مدفونة هناك، وحيث ذكرياتي تنمو كشجرة في حيودها، وحيث الأحجار تحتفظ بي في ذاكرتها كما تحتفظ بتسابيح آبائي وأجدادي.
كانوا يعرفون الله جيداً، وكانوا يتحدثون معه..
يستيقظون قبل الفجر فيتحول بيتنا إلى معراج، وتكاد الجدران تلين لكثرة ما يتردد اسم الله بين أرجائها.
أبي.. عمي أحمد.. عمي علي.. كانوا ثلاثة، لكن خطاهم كانت واحدة، وكانت جباههم تجتمع في سجدة واحدة.. ودعوتهم لا تعود بعد صعودها ولا تتأجل. فقد كانوا يمشون على الصراط كل يوم دون أن ينتبه لهم أحد، ودون أن يرى أحد خيط الضوء الذي يربط بيتنا بالسماء.
لو كانوا على قيد الحياة لما تجرأت على هذا الحديث، لأنهم لا يريدون أن يطَّلع أحد على ما بينهم وبين الله. رغم أن بهاء وجوههم كان يجعلهم مكشوفين بأنهم من أهل الله.

في هذا المكان كان أول أنفاسي ورؤيتي للضوء.
كنت ألمس السحاب، وأجري في هذه الشوارع الصغيرة بأقدام طفل يفكر في الطيران.
كان ذلك المسجد الصغير مليئاً بالتسابيح والوجوه الرضية، الراضية، يعرف أجدادي جيداً، ويعرف أطراف أصابعهم التي كادوا يمشون بها على الماء.

قبل عام ونصف عدت إلى هذا المكان. صعدت إلى سطح بيتنا فتذكرت أحلامي بالطيران.
كانت أمي تدعونا من النافذة وتأمرنا أن ندخل إلى البيت، لأن البقاء في الشارع وقت المغرب شيء غير جيد للأطفال، لأنها ساعة زوال، ولم تكن تطير الخفافيش سوى وقت المغرب، ولا أريد أن أقطع خيط تأملي في أجنحتها الجلدية الشفافة، السريعة.

هذه هي قريتي، (شهارة). التي نبتت في جبين الأزل.
شهارة..القرية التي تشبه قارورة عطر مكسورة، فكل الأحجار لها رائحة تشبه عطر العيد، وكل النوافذ لها أريج يملأ ذاكرة الخشب. حتى الدخان الذي يتصاعد من فتحات المطابخ كانت رائحته مليئة بالحمد والشكر.

ديوان بيتنا في شهارة..
كان مكتظاً بالدعوات المستجابة، ومليئاً بالتسابيح.
في تلك الخزائن، كان آبائي وأجدادي يرفعون المصاحف.. وفي تلك المعالق الخشبية، بين كل نافذة ونافذة، كانوا يعلقون بنادقهم التي لم يقتلوا بها حتى عصفوراً، فقد كانت دعواتهم المستجابة أسرع من أصواتهم.
كانت البنادق للزينة، وكانت أصابعهم تطرق باب الله. وكأن تلك الأصابع مفاتيح لأبواب يعبرون منها إلى حيث يليق بأقدامهم الوقوف.

كانت جدتي تجلس في تلك الزاوية بوجهها الذي يشبه قرص الخبز الساخن، وأصابعها تنسج حكاية الضوء.

غادروا إلى حياة أخرى..
الخزائن فارغة، ولم يعد هناك بنادق معلقة.
صار الديوان مقفلاً، لكنه لا يزال مليئا بالضوء.

من هنا أتيت كشهقة عالية.. لم يكن في قريتنا وعول، فقد كنا نحن وعول هذه الجبال.
“شهارة”.. القرية التي لمعت كفكرة في رؤوس الجبال..
هذه النوافذ نفتحها صباحاً لنصافح الغيم، فترجع أيدينا مبلولة كأنها استقرت في قلب الماء.
للماء قلب، وللماء شجن، وذكريات منذ أن كان فكرة في خاطر الغيم، والتماعة في ذهن البرق.

أقف أمام البحر فلا أشعر بما أشعر به حين أقف أمام البرك الصغيرة في شهارة. هي برك صغيرة، وماؤها- غالباً- مليء بالطحالب الخضراء، لكنها تستطيع أن تقول ما لا يخطر على بال البحر، وتُشعرني بأمواجها رغم سكون الماء الظاهر.
وأنا أقف أمام برك شهارة فقط، أيقنت أن الماء هو جدي الأول.

هذه الأشجار التي كبرتُ معها، كيف استطاعت أن توجد لها مكانا وتنمو مطمئنة في هذا الحيد الشاهق؟
تبدو الأشجار من بعيد كلحية خرافية على ذقن الجبل الوقور الذي استيقظ في فجر التاريخ ليحرس هذه البيوت النائمة بين أصابع السماء وطمأنينة الأرض.

من هنا جئت..
هنا كان أول أنفاسي، وأول ضوء أراه.
روحي معجونة بالغيم والصخر.. بالمطر واليباس.. بالندى والشمس..

شهارة.. قرية نبتت بين أصابع الأزل.. كأنها شهقة الجغرافيا ونبضة التاريخ الأولى.
ما تزال آثار أقدامي الصغيرة في ذاكرة أحجارها، وما أزال أحتفظ بكحل الجامع الكبير في عيوني.
من يترك كل هذا الترف ويعيش في مدينة تسعل لكثرة امتلائها بالإسمنت والغبار؟!
سأعود، ذات يوم، لأبحث عن ذلك الولد الصغير الذي كان يقلّب (جزء عم) وهو مندهش بألوانه الصفراء والحمراء، ونقوشه الهندية أو الباكستانية.
بيتنا ما زال شامخاً يطلُّ على الغيم، وبصمات أصابعنا تضيء على جدرانه، وتطرق بابه العتيق. ما زال ممتلئا بتسابيح أجدادي وآبائي.. كان الصبح يعرفهم، وكان الغيم يتوقف ليتأمل لحاهم البيضاء ووجوههم الرضية.
سأعود لأنثر روحي ورائحتي بين أزقتها.. ستعرفني لأنها حرضتني على التمرد منذ أن كنت أكتب بالقلم في الهواء وأستغرب لماذا لا يظهر خطي.!!
تعرفني منذ أن كنت أمسح كل بيت وجدار ثم أعيد يدي لأمسح بها وجهي وصدري، كما يفعل المريدون في العتبات المقدسة.
كنت أحفر اسمي على الصخور الكبيرة، وأدون التاريخ، في وعي مبكر لتوثيق ذكرى خشية أن يباغتها النسيان.
أحتفظ برائحة الحوانيت، وروائح الديناميت في مقالع الأحجار، ورائحة البارود الشهية حين تنبعث من “الطمش” الصيني الذي كنا نسميه “أبو حمامة”. كان الأطفال يتبولون على أيديهم حين تنفجر فيها طَمَشَة ذات فتيل مستعجل.

على جبال شهارة تنهار علامات التعجب، وتتلاشى الأسئلة لانعدام إجاباتها.. وكأن هذه الغيوم أرواح تحرسها وتلفها كي لا تراها مدن الإسمنت.
كيف لي أن أكتب عن شجن بداخلي يكفي لإغراق باخرة؟!
وعن روائح أتمسك بها كالقابض على جمر؟!
وعن مياه كانت تخرج حارة من أنفي بعد أن يربطني أبي ويلقي بي إلى الماء بفم مفتوح لأتعلم السباحة..
عن “راحة الحلقوم” التي كانت عندي بمثابة اكتشاف الجاذبية، وصور عبدالناصر ووردة الجزائرية وسميرة توفيق مطبوعة على قرطاسها.

في مساجدها تجد الله.. وفي وجوه شيوخها ترى عصوراً من البهاء والحقيقة.. وفي شوارعها الصغيرة تمشي النساء بثقة الأولياء الذين كانوا يمشون على الماء.

كانت همومنا تنحصر في مشاهدة مسلسل افتح يا سمسم، ونتسابق على ما تبقى من زجاجات السينالكو وكندا دراي بعد أن يغادر الضيوف.
ننام بعد صلاة العشاء بأقدام مليئة بالتشققات والفازلين..
لا أحد يسهر حتى التاسعة مساء..ولا أحد ينام بعد أذان الفجر.

كان جارنا الحداد يخيط شقوق قدميه بإبرة يحتفظ بها منذ زمن بعيد، وخيط مخصص لرتق أكياس القمح. انكسرت الإبرة في تلك القدم المتصالحة مع التراب منذ أول خطوة، ليستبدلها بقدم بلاستيكية ناعمة لن يحتاج إلى دهنها بالفازلين.

مهيوب العجوز أيضاً كان يرتدي قدماً صناعية. تحكي زوجته لجاراتها أن قدمه بقيت معلقة بعد انفجار اللغم، فقطعها بسكين ورماها إلى جنود في ثكنتهم وهو يصرخ:
كلوها، افرموها وكلوها يا عيال الكل.ب.

عاش مهيوب مائة وثلاث سنوات، لم يخرج عن خط سيره اليومي، من البيت إلى الدكان إلى المسجد.. يخرج كل صباح حاملاً جمنة فخارية مليئة بالقهوة، وبيده الأخرى سلة جمر يسكبها في موقد الدكان، ويضع عليها قليلا من الفحم تكفي لرصفها على بوري التبغ، ويبدأ بشفط الدخان من قصبة المداعة وهو يردد: يا نخوسااااه.
جسده الضامر يشبه المومياوات، وجلده اليابس التصق بهيكله العظمي، لم يعد فيه عضو يعمل سوى رئتين ينفث يهما دخان المداعة.. يخرج مهيوب إلى الصيدلية الملاصقة لدكانه ليقترح على حسين إعطاءه بعض الفيتامينات والمنشطات، متجاهلا نبضه الخافت وعضلاته التي تلاشت، ومتجاهلا أن مائة وثلاث سنوات تكفي لتغيير شكل الجبال وإصابة الأنهار بالجفاف.
سأله حسين عن رجله التي ألقاها للجنود، فقال له:
– انتبهت وأنا أقف على لغم، لم أشأ أن أترك مجالا للخوف أو طلب النجدة. لا أريد أن يراني أحد في هذا الموقف فقفزت إلى الأمام ليقضم اللغم رجلي كما تفعل أسماك القرش. ارتميت على الأرض وأنا أشعر بإحساس المعاقين قبل أن أرى رجلي. أحسست بمعنى النصف، بمعنى النقص.. ولا يجب أن يراني أحد مرميا على الأرض. كانت رجلي معلقة كغصن مكسور، فقطفت ذلك الغصن وألقيت به إلى ثكنتهم. لن يأكل رجلي أحد سوى الكلاب والنسور.

الندوب التي تملأ رأسي جمعتها على مدى سنوات، كأنها نياشين.. كنت أشتريها بالكثير من الشقاوة. لم يكن يعجبني جمود القرية ورتابتها. الأيام نسخ متشابهة كلها طبق الأصل.
الناس في القرية منضبطون في مواعيد نومهم واستيقاظهم ووجباتهم، وطريقة موتهم.. كلهم يكتبون وصاياهم، ويحتفظون بأكفانهم في خزانة الملابس.
سألت أبي ذات يوم: لماذا يحتفظ بالكفن؟ قال لي: كما نحرص على ثيابنا في الدنيا لا بد أن نجهز ثوب الآخرة.
بعضهم يخاف أن يموت في يوم عيد أو إجازة، أو في منتصف الليل، لأن المحلات التي تبيع الأقمشة ستكون مقفلة، ولن يستطيعوا شراء الكفن.. لذلك كانوا يشترونه ويضعونه في خزانة الملابس تحسباً لأي طارئ.
ذات يوم غرق طفل في بركة مليئة بالطحالب. فقيه القرية أخبر والديه بأن الواجب دفنه بملابسه، لأنه شهيد. فرح والداه بتلك الفتوى لأنهم لم يكونوا يمتلكون ثمن الكفن. بينما أشفقتُ عليه أنه سيدفن بملابس مبلولة في مقبرة مطلة على الحيد تعبر منها الريح طيلة الوقت.
في “شهارة” نسمي الكفن (مريكني)، لم أكن أعلم حينها أن هذه التسمية تعني (أمريكاني)، لاشتقاقها من اسم بلد المنشأ الذي نبت فيه القطن، وقبله نشأت دودة القز، والمغازل والمحالج التي حولت ذلك القطن إلى كفن خشن لا يوفر للموتى أدنى شعور بالراحة أثناء ارتدائه.

كأطفال، كنا نفرح بقراءة سورة ياسين في الجامع. كان أقارب الميت- بين المغرب والعشاء- يملأون أوعية نحاسية بماء الورد ويرشونه فوق رؤوسنا ونحن في حلقة كبيرة نقرأ ياسين بصوت جماعي ونهديها إلى روح الميت الذي لا يصل إليه ماء الورد، فأعود إلى أمي مبلولاً بهذا الماء الذي كان يستخدمه الناس لدهن أجسام أطفالهم لعلاج الحصبة والجدري. أما الرجال فكانوا يدهنون جباههم وسجائرهم ب”أبو فاس” و”مكافح الرياح” كعلاج لكل أمراض الشتاء الشائعة. وأما النساء فلم نسمع عن استخدامهن شيئا، فقد كنت أظن أن الأمهات معصومات من المرض، لأنهن يسهرن على كل المرضى ولا يحتجن لأحد ليسهر عليهن، لأن المرض لا يليق بهن.

جارتنا “محصنة” أرسلت مع ولدها المسافر ثلاث مائة ريال ليشتري لها كفناً. تريد أن تتباهى أمام جاراتها بأنه مجلوب من صنعاء، وليس مقطوعاً من لفة القماش القديمة التي يضعها الحاج غالب خلف تخشيبة البضاعة باعتبارها من المبيعات النادرة.

كان الموت نادراً، وكلما مات شخص يكون أهل القرية قد نسوا عدد تكبيرات صلاة الجنازة. كان الموت طبيعيا أيضا ومقتصرا على كبار السن، أو المواليد القادمين من زواج الأقارب، أو أمراض الطفولة الستة القاتلة التي كانوا يتجاوزونها دون تطعيم، فقد كان (ماء غريب) دواءً لكل داء في أذهان الأمهات.

في حارة “دارة العقبة” تحرص أمي على إدخالنا إلى البيت قبل غروب الشمس، فقد كانوا يسمونها “ساعة زوال”، وفي اعتقاد القرويين أن الشياطين تعود إلى مساكنها وقت المغيب، ولا يجب أن نبقى للعب في طريق عودتهم.
كنت أحب مشاهدة الخافيش وهي تستعرض مهارتها في رؤية الظلام، وتمشي من فوق رؤوسنا.
قالت جدتي إن من ينقع خفاشا في الماء حتى الصباح، ويشرب ذلك النقيع على الريق يصبح شاعرا وفقيها، وتحتفظ ذاكرته بكل شيء.
تذكرت يحيى شرف، الشاعر الوحيد في القرية، وهممت أن أسأله: كيف أصبح شاعرا؟
كنت أتمنى أن أصبح شاعرا، لكن أسرتي ستقف في وجه هذه الأمنية، لأنني خلقت لأكون تاجرا مثلهم، والتغريد خارج سربهم يعني كسر كل نواميس الكون. وكنت قد صممت أن أغرد خارج السرب لكي يكون صوتي مسموعاً.

(استمطِر)..
هكذا يقال لمن يشاهد التلفزيون أثناء نزول المطر.
يتوقف كبار السن عن شفط دخان المداعة لأن كرسيها النحاسي يجذب البروق، ففي الصيف الماضي دخلت برقة من قصبة المداعة وقتلت جارتنا تقوى، لأنها لم تستمطر وتترك القصبة من يدها. ولا ينسون أن يأمرونا بإغلاق زرار الثوب العلوي، رغم أنه يشعرك بالاختناق. لم أسأل ما علاقة الزرار بالبروق، لأني لم أكن أغلقه، ولا أحب أن أكون ضمن القطيع.

(استمطر).. تعني استشعار الرهبة والتظاهر بالخوف وقت نزول المطر، رغم وجود عمود نحاسي طويل مغروس في وسط القرية لحذب البروق، كانوا يسمونه مغناطيس.

لم نكن نرى القاضي يحيى إلا في اليوم التالي لنزول المطر، كان ينهرنا دائما من نافذة بيته حين يرانا نلعب في الشارع بعد سقوط المطر. فقد كان يمتنع عن الخروج حتى تجف الشوارع، لأن الماء نعمة ولا يحوز أن ندوس عليها.

كان جيب القاضي يحيى مليئاً بالشوكليت الذي كان يوزعه على الأطفال، والجيب الآخر كان يملأه بأقراص النعنع الذي يوزعه على الكبار كعلاج للحموضة.
يناديني فأجري باتجاهه ليضع الشوكليت في يدي، فأقول له: باقي أخي الصغير وباقي أختي، وعمتي، وخالتي، فيملأ يدي بالشوكليت الذي كان يشتريه من دكان عمي كل يوم بماله الخاص ويوزعه على الأطفال. لم ينجب، لكنه كان يرى نفسه أباً لكل أطفال شهارة، ويريد أن يسعدهم جميعاً. لقد كان بابا نويل عصره، وكان يمنحنا هداياه كل يوم حتى كبرنا، وليس يوما واحدا في العام كما يفعل سانتا كلوز.

مات القاضي يحيى زاهدا في كل شيء، وترددت أن أسأل أخاه عن كوت القاضي، ومن سيقتسم التركة اللذيذة التي تملأ جيوبه؟ لكن أخاه كان لئيما رغم أمواله الطائلة التي يستطيع بها شراء القرية بأكملها، فقد كان مؤمناً بطغيان الاتحاد السوفيتي، وأصبح جابياً للتبرعات نصرةً للمجا.هدين الأ.فغان.

يقضي الناس ديونهم، ويتزوجون ويشترون الأس.لِحة والسيارات بعد موسم المطر. فحين تطالب أحدهم يالدين الذي عنده يقول لك: لما يجي المطر.
المطر في القرى يعني الحصاد، والمال، والشبع، والبهجة، والرزق الجماعي.

(كان به واحد، والواحد الله.. إن صدقنا فالحمد لله، وإن كذبنا فاستغفر الله).
هكذا كانت جدتي تبدأ حكاياتها كل مساء، فندخل معها في مدن خرافية كانت تجيد بناءها وتلوينها.
لست هنا لأحكي عن تجربتي مع الكتابة وتتبع أول ينابيعها، ولست بصدد الحديث عن التمرية التي تخبئها لنا تحت دكَّتها. كانت تمرية مستوردة، وكنت أستطيع أن أقرأ عبارة “إنكلترا” على غلافها الأحمر. أتخيل المسافة التي قطعتها هذه التمرية من بريطانيا إلى قريتي شهارة.
لا أعرف أين تقع بريطانيا جغرافياً، لكني أعرف أن بيننا وبينها بحاراً وجبالاً، وأن هذه التمرية قد سافرت على باخرة ورأت البحر، المهم أنها سافرت حتى وإن كانت في كرتون محكم الإغلاق لتستقر تحت دكة جدتي في ظلام مليء برائحة القاز، بعد أن كانت في إنكلترا المليئة بالضوء والكهرباء.

الكثير في قريتنا لا يستطيعون نطق عبارة “إنكلترا”، لذلك يسمونها (بلاد العجم). كنت أتخيل أنهم لا يستطيعون النطق، فعرفت في خطب الجمعة أن العجم هم الكففار.. لكن كيف يكونون كففاراً وهم يصنعون التمرية والويفر أبو مثلث وأبو نجمة؟!
كان الخطيب يدعو عليهم وأنا أقول: لولا إنكلترا لما استطعنا اكتشاف هذا الطعم والتلذذ بهذه الشوكولاتة دون أي ترجمة.

الثالثة صباحاً بتوقيت صنعاء، والتاسعة بتوقيت شهارة التي كانت تضبط الوقت على ساعات “ويست إند”، التي كانوا يسمونها “صليب”.
لم يكونوا يعلمون ماذا تعني كلمة “صليب”، ولم يكونوا قد سمعوا شيئا عن الصليب الأحمر، لأنهم بعيدون عن الإغاثات الطبية وعن كشوفات النازحين، فقد كانوا بصحة جيدة، ومدافنهم مليئة بالحَبّ والعدس والذرة الصفراء.

يحسب سكان شهارة الوقت منذ أول ساعات الصباح، فيقولون: الساعة واحدة صباحاً، وليس السابعة كما هو في صنعاء وبقية العواصم العربية. ولأن اليوم اثنتا عشرة ساعة فإن الشمس تغرب في الثانية عشرة، بالتوقيت العربي.

كلما شاهدت صورة لشهارة أستحضر روائح أحجارها..
للحجارة رائحة، وللماء رائحة، حتى وإن قال مدرس العلوم غير ذلك.

لا أشعر في أزقتها برهاب الأماكن الضيقة، بقدر ما أتمنى أن ألتحم بجدرانها وأرتدي أحجارها لأصبح كأولئك العمالقة الحجريين في فيلم “نوح”. فلا يليق بهذه المدينة سوى الأساطير.

تعليقات