إحنا الخائبين.. مش هي!
في التاريخ والجغرافيا، اليمن أصل الحضارات الأولى، ومهبط الديانات، وقلب الجزيرة العربية، وموطن تجارة اللبان والبخور، وصاحبة أقدم وأروع الابتكارات لترويض الطبيعة القاسية.
ولكنها عند أبنائها المتذمرين: (الله يلعنها بلاد!).
طيب ليش، وما عملت بك هذي البلاد الطيبة يا بني آدم؟
والله ما له علم!
المهم يلعنها ويشقدفها ويبخسها ويهين تاريخها وأصلها وفصلها ونسف أهالي أهلها؛ لأنها لم تكن أميركا، ولم تكن السعودية، ولم تكن فارسة أحلامه التي تعيش في بيوت من زجاج..!
صحيح أنها بلاد بائسة وخائبة، وحظها بين الأمم مخيّط بصميل، وأوجاعها كثيرة، وانتكاساتها متكاثرة، وسمعتها الان في أسفل سافلين، لكن السبب مش فيها أبدًا، عمر الأرض ما كانت في يوم خائبة.. إحنا السبب في ما وصلت إليه هذي الدرة من أحوال لا تسر.
إحنا الخائبين اللي نجعثها، ولا نعرف قيمتها.
إحنا اللي ندهفها دائمًا إلى مصائر سيئة، راكنين بها على شوية معاتيه يُدخلونها من محنة إلى أخرى دون حساب، حتى كثرت عليها المحن، وصارت هذي اليمن المغمى عليها.
تعرِف يا حبُّوب أن هذي البلاد الطيبة ما في زيها؛ لو تقلب الكرة الأرضية كلها تحت فوق، وتقول لي ليش؟ أقول لك التالي:
في اليمن تنوع وثراء مهول يأسرك، وتحس أنك عايش في تجمع دول. اللهجات عدّ لك عُدّ يا صاحبي، والمفردة الواحدة تشرح لك كتاب.
والتنوع في الأزياء الشعبية؛ لما تشوفه تحس أن قوس قزح يشتغل خياط ملابس في اليمن.
والوجبات في المطبخ اليمني خليط من مطابخ حضارات مختلفة، كلها خالطت معيشة اليمنيين عبر قرون من الزمن.
والتنوع في العادات والتقاليد، كل هيجة في اليمن معاها ما يخصها من إرث؛ وكلها متشعبكة في مجموعة أعراف اجتماعية شبيهة ببعضها، وكلها داخل بلاد واحدة.
والتنوع في الطبيعة يا لطيف والسحر.. البحر والجبل والسهل يتكلموا سبع لغات، ولكن محد معه أذن يسمع، والعيون مصابة بالرمد.
وسواحل عدن والمهرة وشبوة وسوقطرة والحديدة والخوخة وحضرموت وباب المندب وميدي والمخا وجزر كمران وميون وحنيش، كلها عادها عارية تمامًا كما خلقها الله، وكل من شافها يتحسر ويصرخ في أعماق نفسه: أين أنت يا كلومبوس؟!
وفي أعماق البحار ثروة هائلة، لكن ما فيش من يكتشفها ومن يسوّقها إلى الناس، والمنافذ البحرية كلها مفتوحة للتهريب!
وفي كل جبل من جبال البلاد، شد رجلك يا ذاك و”اتعنقل”، وبإمكانك أن تمسي كل يوم فوق ضاحة، وأن تنام معلقًا بين السحب.
وأنت جالس في قمة جبل صبر، تحس أن ما عدفيش مكان أرفع منك إلا السماء، وتلقى الناس عايشة، والقرى مثل الغمام منتشرة ملان الجبل.
وفي محمية “بُرع”، وجبال حراز والمحويت وكوكبان؛ البيوت معلقة في القمم فوق الصخور وكأنها بيوت نسور عايشة في الحيود العالية.
وفي حجة؛ الطريق بين الجبال يطلعك إلى السماء بسيارة، وتشوف تحتك واحد يبني وواحد يزرع، ودخان موفى الحطب شمه يرد الروح.
وفي جبال إب وبعدان وحبيش، البساط الأخضر يقول لك: اتفضل ارتاح.
وفي وادي السحول وقاع جهران وقيعان صعدة شم التراب عرق يوطل من السماء.
وفي سهول تهامة لون الطين يشبه جلدك، والزرع يشعرك بالشبع وبالارتواء، والأرض براح على مد البصر، والوديان عروق خضر، والسواعد السمر من زمان تنتظر غيث الدولة الوطنية متى يأت ليأتي معها كل الخير لكل إنسان في اليمن.
وفي حضرموت وشبوة والمهرة والجوف ومأرب؛ يختبئ في الأعماق مستقبل “بلدة طيبة ورب غفور”.
ومش كذا وبس..
شوف العمران في صنعاء القديمة؛ شوف القمريات وباتعرف تمامًا أن اليمنيين أول من “هاوز” الضوء، وأول من بنى مجتمعًا حضريًّا.
وقبل ناطحات السحب في نيويورك ومنهاتن ودبي، كانت ناطحات شبام في تريم.
وحتى الكابتن هنس؛ لف بلدان العالم كلها في رحلات بحرية كثيرة، ولما شاف سواحل عدن؛ شهق ساع الطفل لما يفرح ببدلة العيد.
ومن جمال اليمن النادر على أية حال؛ جو كل المحتلين عشان يتصوروا معاها سيلفي!
لكن هذه الدرة النفيسة مشكلتها المستمرة أنها واقعة في أيادي شوية رُباح!
وهي الآن عليلة وكسيرة وليست على ما يرام طبعا.
ولكن؛ عندما تتشافى هذي البلاد الطيبة من عللها المتكاثرة؛ ستلعن نفسك كثيرًا يا حبوب؛ لأنك لعنتها دون أي إحساس بالمسؤولية تجاهها.
وقالوا في المثل “محد يتفل من لقفه لادقنه”.
* نقلا عن موقع (اليمني – الأميركي)